البحث عن الجاني: الرؤية السينمائية لنكسة 1967
ترجمة: أميرة المصري
نشرت هذه الترجمة للنص الإنجليزي الأصلي على موقع مدى مصر 22 مارس 2016
لقطة من فيلم ثرثرة فوق النيل
تأتي هذه المقالة كجزء من المحاضرة الثالثة من محاضرات ملتقى التاريخ والذاكرة (والذي أسسه فؤاد حلبوني وإسماعيل فايد في 2016). وتناولت المحاضرة الرؤى السينمائية لحرب 1967
كثيرون ممن خدموا في الجيش المصري أثناء حرب 1967 واضطروا إلى العودة إلى منازلهم سيرًا على الأقدام، لأن الجيش لم يكن قادرًا على نقلهم، ورووا قصصًا مروعة عن هجمات وحشية من قبل مدنيين، خابت آمالهم بسبب الهزيمة المدوية وخيانة “جيش الشعب” لشعبه بانهيار قواه المعنوية والاستراتيجية مع دخول إسرائيل الأراضي المصرية واحتلالها.
أعلنت الهزيمة نهاية مشروع ما بعد الاستقلال كما صاغه جمال عبد الناصر والضباط الأحرار. فقد سُحقت الجمهورية العربية الاشتراكية التي ألهمت البلاد المحتلة في المنطقة وسواها، والتي علّقت الملايين بحلم بلد عربي موحد وحر. لم تكن الهزيمة استراتيجية فحسب، بل كانت هزيمة معنوية ساحقة أيضًا أعادت تعريف شكل وتوجه الدولة والمجتمع في مصر والمزاج العام لعقود لاحقة. تناولنا في الندوة الثالثة بملتقى مدى في نوفمبر الماضي الرؤية السينمائية التي تلت النكسة. لم يأتِ اختيارنا على أساس التتابع الزمني ولا التصنيف الفني، وإنما ركزنا على مدى تأثير الإدراك المفاجئ للهزيمة على أعمال صناع السينما المصريين، وكيف اختاروا تصوير هذا الإدراك. طرحنا أسئلة حول الخطوط الدرامية وأساليب السرد التي اختاروها لتجسيد وعي مجتمعنا الجمعي، وكذلك حول ما يربط ما تبقى من هذا الوعي بواقعنا الحالي.
وقع اختيارنا على ثلاثة أفلام: “ثرثرة فوق النيل” لحسين كمال (1971) و”زائر الفجر” لممدوح شكري (1973) و”المذنبون” لسعيد مرزوق (1975). ورغم اختلاف طبيعة علاقات الأفلام الثلاثة بالدولة وسينما ما بعد النكسة، إلا أنه يمكن وصفها جميعها بأنها “قصص إطارية” -أي تقدم حبكة واسعة النطاق تضم في إطارها سرديات أضيق نطاقًا وأكثر أهمية- تدور حول تبعات جريمة قتل. ويلعب الموت دورًا رئيسًا في الحبكة، من خلال سؤال “من القاتل؟” الذي يشير إلى العديد من المشتبه فيهم، وينتهي البحث عن الجاني بالإدانة الجماعية للدولة والمجتمع.
كانت السينما على الأرجح آخر شكل فني استوعبته دولة ما بعد الاستقلال. ففي إطار خطتها للسيطرة على الإعلام والإنتاج الثقافي، والتي سارت بخطى بطيئة ولكنها ثابتة، أعلنت الدولة بوضوح عن خطوات السيطرة على الفنون بداية من عام 1957 بتأسيسها المجلس الأعلى للفنون والآداب. أما في ما يتعلق بصناعة السينما فقد أُسست في العام نفسه مؤسسة تهدف إلى دعمها بوضوح، وهي مؤسسة دعم السينما.
جاء تأميم الستديوهات وشركات التوزيع لاحقًا في عام 1963، لتقع تحت إشراف المؤسسة العامة للسينما، والتي أنتجت نحو 153 فيلمًا حتى تاريخ حلّها عام 1971، ومن بين هذه الأفلام كلاسيكيات مثل “الناصر صلاح الدين” ليوسف شاهين (1963)، و”الحرام” لهنري بركات (1965) و“القاهرة 30” لصلاح أبو سيف (1966). كان 53 فيلمًا منها من وحي روايات أدبية، وخاصة روايات نجيب محفوظ، ما عكس انحصار السينما على الصيغة الأدبية ذات الصلة الوثيقة بالواقعية الاشتراكية التي كانت الدولة تروج لها.
لكن التأميم لم يحول مجرى الصناعة إلى التركيز بشكل حصري على تصوير الواقعية الاشتراكية؛ فقد ظلّ معظم الأفلام في نطاق التسلية والمجال التجاري. كما أن هذا النوع من الواقعية الاشتراكية لم يترتب عليه أي نقد للدولة، بل كان يتأرجح فوق خط رفيع يحدد ما هو مقبول لها. وفي هذا السياق فتحت النكسة وتبعاتها مجالًا ضيقًا لإنتاج أفلام تنقد الدولة والمجتمع الناتج عنها.
فيلم “ثرثرة فوق النيل” خير مثال على ذلك. أخرج الفيلم حسين كمال، الذي يهوى اللعب على المشاعر، ويعاني الفيلم من خط ميلودرامي رديء تتميز به سائر أفلام المخرج، لكنّه يتضمن أيضًا بعضًا من أكثر المشاهد رمزية في السينما المصرية، كرد فعل على الحرب وموت ناصر باﻷخص.
الفيلم مأخوذ من رواية لنجيب محفوظ تحمل العنوان نفسه صدرت عام 1966، ودخلت بعض التغيرات عليه، ليعكس واقع فترة ما بعد النكسة. تدور أحداث الفيلم في عوامة على النيل متتبعة حكاية مجموعة تلتف حول نجم سينمائي محدود الموهبة اسمه رجب: صحفي وروائي ومحامٍ وموظف ناقم (أنيس)، وبعض النساء اللاتي تربطهن علاقات محرمة بهم. تدخن المجموعة الحشيش وتسفه من كل ما حولها في سخرية هستيرية ومفرطة، لكن الفقاعة التي يعيشون فيها تنفجر عندما يصدمون بسيارتهم فلاحة كانت تسير على الطريق السريع بعد مشاركتها في شعائر الخصوبة في مكان يحوي آثارًا فرعونية قديمة. تظهر الأحداث اللاحقة تعرّض المجموعة للنقد من قبل صحفية شابة وجادة تلقي عليهم محاضرة عن حالة الغيبوبة التي اختاروا العيش فيها ورفضهم تحمل مسؤولية أفعالهم -أو مسؤولية واقع ما قبل الحرب، وهم جزء منه. وتتصاعد الأحداث في النهاية لنرى العوامة وقد حلّت حبالها لتطفو بعيدًا بينما الصحفية والموظف يعلنان موت الفلاحة وأن على الجميع تسليم نفسه.
يعد أنيس تجسيدًا مطلقًا لمجتمع ما بعد الهزيمة. فهو الساخط المتشائم والمثالي المصدوم، والذي كافح لمقاومة البريطانيين في شبابه وعاش بعدها ليرى دولة ما بعد الاستقلال تصفي كل أشكال التنظيم السياسي والمشاركة السياسية، ما نتج عنه مجتمع خاضع وخائف ومحطم الآمال.
يتكرر نموذج المثالي المجروح في دور ماجدة الخطيب في فيلم “زائر الفجر” لممدوح شكري. تدور أحداث الفيلم الذي كتبه رفيق الصبان أيضًا حول مقتل امرأة: نادية الصحفية الناشطة سياسيًا والتي تدفع ثمنًا باهظًا لنشاطها، وهي، مثلها مثل أنيس، تعرضت للحبس والتعذيب على يد نظام ما بعد الاستقلال. لكنها، على عكسه، هي الضحية التي تدور حولها القصة الإطارية، حيث يُقسم اللوم بشكلٍ متساوٍ على الجميع: زوجها الأناني، وجيرانها التافهين، ومصففة شعرها التي تدير بيت دعارة، وأجهزة المخابرات، وجميع أفراد المجتمع الخانعين. يعاني الفيلم من ترهل سيطرة شكري على الإيقاع والتصوير، لكن تقمص ماجدة الخطيب لدورها ينقذه من الغرق في الميلودراما.
نرى نادية في مشهد دال، عندما تدرك أن أجهزة المخابرات تراقبها، وهي تصرح أنها “مش خايفة من الموت [ . . . ] أنا بس خايفة إنه يجي بدري قبل ما أشوف اللي نفسي فيه.” وتضيف قائلة: “الناس اللي اتظلمت [ . . . ] اوعوا تنسوا، اوعوا تنسوا [ . . . ].” تمثل مسيرة نادية المهنية وحياتها الرؤية الطوباوية المحكوم عليها بالفشل والتي تتجسد في الصراع من أجل الاستقلال وصناعة دولة قومية بعد الاستعمار. وتلقى نادية نفس مصير هذا الصراع من عقاب وقتل فعلي للمطالبة بتحويل هذا التصور -ووعود الحركة القومية وزعمائها- إلى حقيقة، بدلًا من الاكتفاء بالخطب الرنانة والبروباجندا. انسحق هذا التصور على يد نفس الدولة التي ألهمته، ويبدو أن الجميع هم الجناة.
تلعب الإدانة دورًا محوريًا في فيلم سعيد مرزوق، كما يتضح من اسمه “المذنبون.” قام نجيب محفوظ بكتابة سيناريو هذا الفيلم أيضًا، ما يؤكد ميل الكاتب الشديد إلى بناء سردي يضم عدة أفراد في حدث واحد -وهو جريمة القتل في هذه الحالة. يبدأ الفيلم بموت ممثلة شهيرة (وتقوم بدورها سهير رمزي) وقد طعنت عدة مرات، كان بعضها في “مناطق حساسة من جسمها،” ما يطلق سيلًا من القصص المترابطة للشخصيات التي حضرت حفلتها الليلة السابقة.
يقدم هذا الفيلم، الذي لم يخرج للنور إلا بعد ثماني سنوات من النكسة، نقدًا لاذعًا للمجتمع بعد موت عبد الناصر وحلم ما بعد جلاء الاستعمار.. لا يسلم أحد من إدانة مرزوق للجميع، من كبار الموظفين إلى عاملات المنازل المنافقات. نرى شبكة “الرذيلة” التي نسجتها الممثلة حول نفسها، وتقع كلمة “الرذيلة” بين علامتي تنصيص لأن كل الشخصيات نسخ منمقة وأنيقة للشر، وهم يدركون ذلك. تتمكن الممثلة من إعفاء نفسها من الحكم الفوري عليها رغم مواقفها الأخلاقية المشينة، ويعود الفضل في ذلك إلى تمثيل سهير رمزي الضعيف والساذج. ولأنها مشغولة دائمًا بأشياء أخرى (مثل شعرها أو أظافرها) وتكتفي بمشاركة شديدة السطحية في معظم المواقف، يصبح من الصعب تصديق أنها المرأة التي لا تقاوَم، صاحبة العقل المدبر وراء ذلك كله.
لكن الحبكة بمواعظها الأبوية تستخدمها كمجرد أداة؛ فهي سلعة جنسية بلا وازع أخلاقي. البطل الرجل هو من يقود الأحداث ويقرر مصيرها في النهاية.. لا يوجد ما يمكن إدانتها بسببه سوى أنها “باعت نفسها” لمكاسب شخصية -وكأن كل هذا الفساد لا بد وأن يحدث من خلال أجساد النساء والاقتصاد الشهواني المهيمن. يفند الفيلم الأفعال المشينة التي اقترفتها كل شخصية من خلال علاقتها بالممثلة، وهنا يتبين أن جسدها هو حلقة الوصل بين كل هذا الشرور.
في المشاهد التي لا يصور فيها مرزوق المرأة كوعاء لرغبة الرجل وسلطته، نجده يستخدم عدسته للإشارة إلى أن الفساد قد توغل بالكامل في مجتمع النكسة. نرى في أحد المشاهد لحظة وصول الدجاج المجمد لإحدى الجمعيات الحكومية لتبدأ أحداث الشغب، بينما يهرّب المدير دستة دجاجات أو أكثر لتوصيلها إلى حفلة الممثلة. يكشف ذلك عن مشاكل أكبر بكثير: إبطال السادات لنموذج ناصر الاشتراكي القومي، النموذج الذي يربطه الفيلم على ما يبدو بالنكسة نفسها. تبدو سياسات الانفتاح التي طبقها السادات نتيجة تعيسة لنكسة 1967 -حيث طُبق نموذج نقيض لمحو هذه الوصمة، لكن الفيلم لم ينجح سوى في الكشف عن انحراف سياسات ناصر وتناقضاته هو ودولته.
في هذه الأفلام الثلاثة إشارة إلى سينما “بوليتزيوتسكي” (السينما البوليسية) الإيطالية والتي تطورت في أعقاب هزيمة الحرب العالمية الثانية وسقوط الدولة الفاشية. بدأ هذا النوع السينمائي في عام 1959، وتخصص في تقديم قصص إطارية تدور حول البحث عن الجاني وتضم العديد من الشخصيات التي تلقي الضوء على مجتمع ما بعد الحرب في إيطاليا وآمال جيل الستينيات الخائبة. نجد أصداء واضحة لشعور صناع اﻷفلام بالإحباط وخيبة الأمل تتردد لدى نفس الجيل في مصر بعد النكسة. في الحالتين تتصدر المشهد أسئلة حول العدالة والمسؤولية من خلال موت صورة البراءة الجمعية على نحو وحشي. وكما لعبت الرقابة دورًا في السيطرة على محتوى الأفلام المنتجة في إيطاليا، حُذفت مشاهد من هذه الأفلام في مصر أو تأخر عرضها أو منع من الأصل. (ولقد تصادف موت ممدوح شكري في نفس عام إنتاج فيلم “زائر الفجر،” وقُدّم التماس لعرض النسخة الأصلية الكاملة، لكن من الواضح أنه لم يأتِ بنتيجة).
لم تجد الأسئلة التي طرحتها هذه الأفلام إجابة قط، وأعيد طرحها مرة أخرى على نحو ملح في يناير 2011 -ففي لحظة الثورة لم يكن من الممكن تأجيل أسئلة كهذه. من المسؤول؟ لمَ هُزمنا؟ لمَ مات حلم ما بعد الاستعمار؟ والآن، بينما يستمر تسييس تاريخ السنوات الخمس الأخيرة في مصر بصورة كبيرة من قبل كل الأطراف، من المهم أن نعيد النظر في هذه الأفلام وما يماثلها من أفلام أخرى، وأن نعيد طرح أسئلتها وننقد رؤيتها لما كان يحدث بالمجتمع -فأحيانًا يكون التذكر أفضل أنواع المقاومة، وما حاولت الثورة قوله هو إن السبيل الوحيدة لتجاوز الهزيمة هي خلق مجتمع قابل للعيش وعادل وحر.