Egyptian Alexandria Jewish girls during Bat Mitzva. - Courtesy: Nebi Daniel Association photo collection
قراءة في تاريخ اليهود المصريين: عن السرديات الحاكمة وتلك الهويات الهشة
نشرت هذه الترجمة للنص الإنجليزي الأصلي في موقع مدى مصر 20 أكتوبر 2015
تأتي هذه المقالة كجزء من المحاضرة الثانية من محاضرات ملتقى التاريخ والذاكرة (والذي أسسه فؤاد حلبوني وإسماعيل فايد في 2016). وتناولت المحاضرة تاريخ اليهود المصريين وآثار ذلك التاريخ وما تبقى منه
إن الحالة الإنسانية اليهودية تم تعريفها بغياب الوطن. كانت شيئا في غاية الجمال… إن الوقوف خارج كل العلاقات الاجتماعية، هذه الحالة من الانفتاح الكامل والذي رأيته في أمي، كان شيئا ساحرا، ولكنك تدفع ثمن الحرية. إن تلك الحالة لم تكن لتستمر ساعة التحرير (نشأة دولة إسرائيل) لأكثر من خمس دقائق
“ حنا أرندت (مقتبس من مقابلة أجراها معها جونتر جاوس 1964)
لعل أعظم درس من الممكن أن يعلمه لنا تاريخ اليهود في مصر هو مدى هشاشة مفهوم مثل الهوية في مواجهة مفاهيم مثل الدولة الحديثة أو القومية أو حتى الأيدولوجية. وأن الهوية كمجمل علاقات وتجارب في غاية التعقيد والتناقض لا يمكن لها أن تنجو من تمحيص ومساءلة مفهوم مثل المواطنة أو ظواهر تاريخية مثل محاربة الاستعمار. في ثاني ندوات ملتقي مدى للتاريخ والذاكرة الثقافية تتبعنا تاريخ اليهود المصريين منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى الآن لنرى كيف يمكن أن يستمر فصيل مجتمعي- دون اعتبار أفراده مواطنين مصريين- في المشاركة في جميع أوجه الحياة بشكل كامل والتماهي مع ما يسمى بـ”المجتمع المصري” لمدة قرن من الزمان، ليستقيظ فجأة على واقع الإشكالية السياسية- القانونية لفكرة مثل “الجنسية”. إن اليهود المصريين، على قدر تنوعهم الكبير والذي يكاد يتحدى أي محاولة شاملة لتحليلهم، يمثلون جزءاً من أحجية الفرد في واقع ما قبل الدولة الوطنية الحديثة.
ولكي نتمكن من فهم كيف انتهى الحال باليهود المصريين من طائفة تعدادها مائة ألف أو يزيد في 1948 إلى مجموعة من المهاجرين والمنفيين، ليصل تعدادها إلى أقل من 200 فرد بعد 1967، يجب علينا أن ننظر إلى السياق التاريخي وكيف تطورت معطيات الأمور من التعايش والازدهار إلى النفي والشيطنة.
تشكل المجتمع اليهودي في مصر خلال عدد من الهجرات على مراحل مختلفة من الزمن، أقدمها هجرة طائفة القرائيين التي تعود إلى القرن السابع الميلادي، وآخرها الإشكيناز الذين هاجروا من أوربا الشرقية في نهايات القرن التاسع عشر. وعلى ذلك التنوع العرقي (يهود مستعربون، يهود سفرديم، يهود إشكيناز) والديني (قرائيون وربانيون) فإن جميعهم واجه نفس السياق التاريخي بشكل أو بآخر. تمثل ذلك في سيطرة فكرة النظام الملي للدولة العثمانية على المجتمعات في الشرق الأوسط، وذلك قبل صعود الحركات القومية وحركات الاستقلال، وهو النظام الذي ضمن شيئا من الاستقلالية لبعض طوائف غير المسلمين (فتم السماح لهم ببناء مدراسهم ودور عبادتهم على سبيل المثال) ولكن مع خضعوهم لهيراركية يأتي المسلمون على قمتها. وفي ظل سيطرة الدولة العثمانية على جزء كبير من الشرق الأوسط لم تظهر أفكار كالمواطنة أو الجنسية بشكل واضح وبتبعاتها السياسية والقانونية كما نعرفها الآن، فقد تم اعتبار جميع من يخضعون للسلطان العثماني كـ”رعايا للدولة العثمانية” يتنقلون بين ولاياتها بقدر كبير من الحرية. ويفسر لنا ذلك الوضع كيف أن كثيرين ممن هاجروا إلى مصر (يهودا أو غيرهم) خلال القرن التاسع عشر أو حتى قبل ذلك لم تشغلهم فكرة الجنسية عموما أو إثبات “جنسيتهم المصرية” لعدم ارتباط فكرة الجنسية بالمواطنة كما حدث بعد ذلك. ومن جهة أخرى فإن وجود قوانين الامتيازات الأجنبية وسهولة شراء تلك الجنسيات دفع البعض بالفعل لـ”شراء” جنسيات مختلفة (إيطالية، روسية، أسبانية،..) ولم ير هؤلاء في شراء أي جنسية أكثر من مجرد إجراء شكلي يعطيهم بعض الامتيازات ولا يؤثر في “وطنيتهم” أو “ولائهم” لمصر.
تغير ذلك الوضع الذي امتزج بقدر كبير من السيولة وسمح بولاءت متعددة نتيجة لعدة أسباب، أولها صعود التيار القومي وحركات الاستقلال والتي فرضت تعريف من هي الأمة المصرية ومن هم مواطنوها. ورغم رفع شعار “الدين لله والوطن للجميع”، إلا أن صعود التيار القومي أفرز حركات غاية في الفاشية لم تنتهج نفس الفكر (مثل مصر الفتاة على سبيل المثال) قامت بقصر تعريف من هو المصري على أنه المسلم المصري الأبوين، وتم النظر إلى كل من هو غير ذلك على أنه أجنبي أو عميل. ثانيا، بداية الصراع العربي-الاسرائيلي وخصوصا بعد حرب 1948، والذي كان من شأنه أن جعل الجامعة العربية تصدر حزمة من القرارات السرية بشأن التعامل مع اليهود العرب في الدول العربية بشكل كرس ممارسات عنصرية أفضت إلى إقصائهم ونفيهم في نهاية الأمر. ثالثا، السياق العسكري-الأمني طوال فترة الحروب مع إسرائيل (1948-1973) الذي فرض وجهة نظر أمنية على التعامل مع كل ما له علاقة باسرائيل بما في ذلك البقية المتبقية من اليهود المصريين.
صاحب ذلك حزمة من الإجراءات القانونية التي رسخت بالفعل فكرة اليهود كـ”دخلاء” أو “أجانب”، بدءاً بقانون الجنسية عام 1929 والذي بسببه أصبح حوالي أربعين ألفا من اليهود المصريين بلا هوية، ثم إلغاء الامتيازات الأجنبية عام 1937، ثم إصدار قانون الشركات عام 1947 والذي وضع سقفا معينا لعدد الأجانب المعينيين لا يمكن تجاوزه، وأخيرا إجراءت تأميم ممتلكات اليهود في عام 1956 ثم في عامي 1960-1961.
يظهر لنا من خلال نظرة سريعة لتاريخ اليهود المصريين أنه كان مجتمعاً غاية في التنوع، بشكل يصعب معه اصطفافه كوحدة تحارب من أجل مصالحها من جهة، ومن جهة أخرى يظهر لنا تعقد علاقاته مع المجتمع المصري. ولعل التعرض لبعض النصوص التي تم اختيارها من أجل هذه الندوة من شأنه أن يلقي الضوء على تلك التجارب المختلفة ويفتح آفاقاً جديدة لإعادة تخيل تلك الفئة وتجربتها.
أزمة “اليهود العرب” كفئة تحليلة
يتغافل الكثير من المؤرخين والمحللين الحقيقة التاريخية بشأن وجود مجتمعات من اليهود في مختلف الدول العربية تم دمجها بشكل كامل داخل مجتمعاتها لدرجة تحدثها العربية في كل أوجه حياتها، حتى الدينية منها. ويأتي مقال إيلا شوحاط كمقدمة لطرح إشكالية “اليهود العرب” كفئة ذات خصوصية تاريخية تتجاوز ثنائية الصراع العربي-الاسرائيلي، يهودي ضد عربي، ولتبين أنه بالفعل قبل اندلاع حرب 1948 كانت هناك مجتمعات يهودية لا ترى نفسها منفصلة على الإطلاق عن المجتمعات العربية التي تنتمي إليها، سواء لغة أو ثقافة. بل كانت تلك المجتمعات ترى نفسها
عربية هوية ولغة. حتى أنها طورت لكنة عبرية خاصة (متأثرة باللغة العربية وأصواتها) أصبحت أوضح علامة على تاريخها العربي وفي نفس الوقت تركت أثرا من تاريخ تم محوه وسحقه من قبل تلك المجتمعات العربية. حتى عندما اندمجت طوائف اليهود العرب في المجتمع الاسرائيلي احتفظت بلكنتها الشرقية، والتي تختلف عن لهجات الإشكيناز في المجتمع الإسرائيلي، فتم وصمها أنها لهجة المزراحيم (أي المشرقيين). وتحول التمييز الممنهج ضد اليهود العرب في إسرائيل إلى جزء لا يتجزأ من تجربتهم من ناحية، فيما تحولت شيطنتهم من قبل العرب ووصمهم بالعمالة هو الوجه الآخر لتلك التجربة. ويستغل كل طرف في ذلك الصراع اليهود العرب لتصفية حسابات الطرف الآخر، فتتم إعادة صياغة سردية الإقصاء والنفي الجماعية الخاصة بيهود أوربا وإسقاطها بنفس الطريقة على اليهود العرب (من ناحية طردهم من الدول العربية، وتأميم ممتلكاتهم،…إلخ)، وتدعي إسرائيل أن ذلك هو المقابل الموضوعي لتهجير الفلسطينين. وتقوم الدول العربية بإعلان كل اليهود (بما فيهم اليهود العرب) عملاء لإسرائيل وبالفعل تؤمم جميع أرصدتهم وممتلكاتهم وتنهي وجود فئة مشكوك في ولائها. ومن ثم تصبح تسمية مثل “اليهود العرب” تناقضا في المسميات يشي عن حقيقية تاريخية تم اختزالها لحسابات سياسية وعسكرية دون الالتفات لحقيقة تلك الفئة ووجودهم.
تظهر مدى هشاشة هويات ما قبل الدولة القومية في أتون الصراع العربي-الاسرائيلي وما فرضه من إعادة تشكيل وصوغ لتلك الهويات بشكل واضح في كتابات جاكلين كهانوف (1917-1979) والتي غادرت مصر في 1940 لتدرس في أمريكا ثم فرنسا قبل أن تستقر في إسرائيل في 1954. تعرض كهانوف في كتاباتها تجربة اليهود السفرديم والذين شكلوا جزءاً أساسياً من البرجوازية الوطنية وصعود الرأسمالية الوطنية في بدايات العشرينيات في مصر. ونستشف من تجربتها أنها كانت تنتمي إلى طبقة انتفعت بشكل كبير من الامتيازات الأجنبية، كانت مرجعيتها الثقافية أوروبية تماما، تكاد تكون منعزلة عن المجتمع إلا في لحظات نادرة عادة ما تتسم بالحزن والمأساوية. فتتحدث كهانوف عن وضع الغريب الذي عاشته اليهودية المصرية، والتي رغم كونها جزءاً من المجتمع المصري إلا أنها كانت في معزل عنه من خلال تلك الحواجز غير المرئية، فتقول في أحد نصوصها: “كان من النادر لسيدات ورجال من مجتمعات مختلفة – أي الذين لا يستطيع أولادهم الزواج من بعضهم البعض- أن يجلسوا مع بعضهم البعض في الشرفة، وأكثر ندرة حقا أن يتشاركوا في وجبة. تلك الحوجز الدقيقة، غير المرئية هي التي منعت التزاوج بين أبناء الأشخاص الذين يعملون مع بعضهم البعض أو يرتادون نفس الأماكن. وحتى لو تمت دعوة الفرد منهم، فإنه عادة لا يطيل البقاء.” (كهانوف، تمرا، رواية غير مكتملة) كانت تجربة كهانوف كغريبة وسط غرباء، بشكل أو بآخر، دفعتها أن تصيغ مفهوم “المشرقيين”، كمفهوم موازٍ لليهود العرب، وتقصد بذلك المجتمعات اليهودية التي عاشت وتماهت مع دول البحر الأبيض المتوسط وشاركت هذه المجتمعات عاداتها وتقاليدها ورؤيتها للعالم. وحاولت كهانوف من خلال كتابتها صياغة ذلك المفهوم لتجاوز أزمة تقسيم اليهود حسب أصولهم العرقية واللغة اللتي يتحدثون بها من جهة، ومن جهة أخرى أرادت أن تؤكد على أن اليهود المشرقيين كانت لهم تجربة مغايرة ليهود أوربا (خاصة مأساة الهولوكوست) وترتب على ذلك علاقة مختلفة تماما مع تلك المجتمعات المشرقية حتى اندلاع حرب 1948 مما أدى إلى اختلاف سيرهم التاريخية والحياتية بعيدا عن فكرتي المأساة والإفناء.
اليهود المصريون: سردية مغايرة
أصبح جليا بعد هزيمة 1967 و إصرار الدولة على نفي صفة “المصري” عن مواطنيها اليهود والسعي الحثيث لنفيهم أو إجبارهم على الرحيل أن فكرة “اليهودي المصري” لا تتماشى مع تعامل الدولة الأمني-العسكري مع الصراع العربي-الاسرائيلي، في ظل إعادة تعريف من هو المواطن المصري ومن له الحق في تلك المواطنة. يظهر ذلك بوضوح في سيرة المناضل شحاتة هارون ومجموعة روما بقيادة هنري كورييل كممثلين عن الحركة الشيوعية المصرية في الخارج. فرغم اعتقال هارون وسجنه عدة مرات إلا أنه رفض الرحيل عن ومصر وأصر على التمسك بالجنسية المصرية، مؤكدا على أنه “يهودي مصري” حتى وفاته. إن نضال اليهود المصريين في الحركة الشيوعية وإصرارهم على مساندة ودعم مبادرات التفاهم والتقارب بين الشيوعيين المصريين و الحركات التقدمية والشيوعية في أوروبا وإسرائيل خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، متمثلاً في مجموعة روما وجهود شحاتة هارون، تأتي كسردية موازية لسردية الرحيل والنفي وانفصال اليهود المصريين عن سياقهم سواء كان ذلك برغبتهم أو دون إرادتهم.
إن فرض سردية واحدة لتاريخ اليهود المصريين من شأنه أن يجعل التعامل مع ذلك التاريخ والإرث الذي خلفه أمراً في غاية الصعوبة. فبعيدا عن التسطيح والابتذال واستخدام تلك التجربة سياسيا (سواء بسحقها أو بإعادة تقديمها بشكل ساذج ومبتذل) يبقى لنا الاعتراف بتنوع وتشعب تلك التجربة وامتزاجها بالمجتمع المصري، وتصبح قراءة تلك الشهادات محاولة لاستشفاف أفق لتصورات مختلفة عن مستقبل هذا الإرث وذلك التاريخ.